ابو الريم مشرف
عدد المساهمات : 356 تاريخ التسجيل : 12/02/2012 العمر : 36 الموقع : مشرف
| موضوع: في أدب الأطفال رؤية الحاضر بصيرة المستقبل » الفصل الرابع الأربعاء فبراير 15, 2012 1:00 am | |
| اهتم نفر من كتاب أدب الأطفال بأخبار الصحابة، رضوان الله عليهم، وأدلوا بدلوهم في الكتابة للأطفال، فخرجت إلى الساحة الثقافية سلاسل عديدة بعناوين متنوعة مثل «عظماء الإسلام» و «من أعلام الصحابة» و«العشرة المبشرون بالجنّة » و «أعمدة الإسلام» تناولت سير الصحابة، رضي الله عنهم، وما بذلوا من غال في سبيل رفعة هذا الدين. وإن كان في تلك السلاسل خيراً، إلا أنها حوت كثيراً من الأخبار التي تسيء إلى الصحابة وتترك أثرها غير الحميد في نفوس أولاد الأمة.
إن الحديث عن الصحابة، رضوان الله عليهم، هو حديث عن جيل ربّاه الرسول ، وتمكّن من إقامة دولة الإسلام، وأصبح دلالة كبيرة على نجاح تربيته ومعلوم أنه لم يسبق لنبي أن ربى جيلاً بأكمله كما فعل النبي عليه أفضل الصلاة والسلام( )، ولعل من الضروري ذكر صفات هذا الجيل، الذي وصفهم الله عز وجل في محكم التنـزيل بقوله: ((مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـٰهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) (الفتح:29)، كما ذكرهم الله في مواضع عدة من القرآن تنبيهاً للمسلمين إلى ذلك الجيل، الذي بلّغ الرسالة وأدى الأمانة وحفظ القرآن والسنة وعمل بهما، وكان من حكمة الله عز وجل أن وصلنا القرآن والسنة سالمين محفوظين بحفظ الله تعالى لهما( ).
لقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، مثلاً علياً للمسلمين في كل زمان ومكان يسترشدون بسيرهم، وهي السير المنيرة في الحرب والسلم والعبادة والمجاهدة والمعاملة، وهكذا قدّم الإسلام للمسلمين في مختلف العصور نماذج متنوعة صالحة للاقتداء( )، في الشدة والابتلاء والرخاء والفرج، فهم منارات ترشد المسلمين وتنير لهم الطريق وتعينهم عندما يرون فيهم مجاهدين مؤمنين محتسبين ثابتين، وهم معلّمون مصلحون عاملون يؤثرون على أنفسهم( )، وهم الأمنة لهذه الأمة كما قال عنهم الرسـول : « النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»( )، فهم حفظـة الأمـة من ظهور البـدع والحوادث في الدين والفـتن، كما قال النووي، رحمه الله، في شرحـه للحديث( )، وهم خير القرون كما قال الرسول : «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»( ).
فسيرهم الخالدة هي تحقيقٌ لخلود الدين وقدرته على إنتاج النماذج الإسلامية التي تتمثّل قيم الإسلام في حياتها، وقد شاء الله عز وجل أن يظهر بهم هذا الدين، فامتدوا في الآفاق مبشرين بالرسالة، وسيرهم تحمل المدد للمسلمين أينما كانوا وفي أي عصر وجدوا، وتزودهم بعوامل الانتصار ومقومات الظهور، وهم النماذج القدوة، الذين عاشوا الفترة التطبيقية المشهود لها بالرضا والخيرية( ).
ذلك هو جيل الصحابة الذي تربى في مدرسة النبوة، فماذا يقرأ أولاد الأمة عنه؟ نقدم فيما يلي نماذج منتقاة عما كتب عن الصحابة، رضي الله عنهم، في كتب الأطفال:
1- عثمان بن عفان، رضي الله عنه:
تكاد معظم الكتب التي تتناول سنوات خلافته الأخيرة أن تجمع على ضعفه وعجزه عن إدارة شؤون البلاد والعباد، وعلى محاباته لأقاربه، فإنه كان يستمع إلى آرائهم ويعطيهم مراكز في الحكم، فيستغلون هذا في تحقيق مآربهم ويفسدون، هو خليفة يعد ويخلف، وكان موقفه من أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه، موقفاً ظالماً، وقد أسهم ولاته إلى حد كبير في الفتنة التي وقعت له، وكان أن كرهه الناس ونقموا عليه( ).
يعكس هذا الموقف من الخليفة، رضي الله عنه، أحكاماً مسبقة جائرة تدل دلالة ساطعة على جهل مطبق بالتعامل مع سيرة هذا الخليفة على وجه الخصوص، وسير الصحابة، رضي الله عنهم، على وجه العموم، بمعزل عن المنهجية الصحيحة في تناول أخبار سيرته، فهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهو جامع القرآن، وهو الخليفة التي امتدت الفتوحات في عصره إلى آفاق، وفضائله عديدة يحاول أعداء الإسلام طمسها لإبراز مفتريات ضالة في حقه( ).
2- أبو ذر الغفاري، رضي الله عنه:
يقدم هذا الصحابي في كتب الأولاد على أنه محامي الفقراء، المدافع عن حقوقهم أمام الأغنياء المترفين المبذرين المسرفين، وهو الذي نهض للدفاع عن العقيدة أمام المنحرفين المتسلطين من أمثال معاوية، رضي الله عنه، وأصحابه الذين يكنـزون الذهب والفضة ويحتكرون أرزاق الناس ويرفعون راية القهر والقمع والطغيان. ونتيجة موقف أبي ذر، رضي الله عنه، لجأ معاوية، رضي الله عنه، إلى كافة أشكال التهديد والإرهاب والرشوة معه، ففشل، وأمر بإخراجه من الشام إلى المدينة المنورة، وهناك أمر عثمان، رضي الله عنه، بنفيه إلى الربذة( ).
لقد خرجت سيرة هذا الصحابي من إطارها الحقيقي في عصر خير القرون لتدخل الإطار «الشيوعي الاشتراكي»، فتم التعامل مع من حوله من الصحابة، رضي الله عنهم، ضمن هذه الرؤية الدخيلة القاصرة، وبذلك أسىء فهم الشريعة الإسلامية في مجال كنـز الأموال والزهد، فإن أبا ذر، رضي الله عنه، كان رجلاً صالحاً زاهداً، وكان مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلاً عن حاجته هو كنـز( )، وقد ورد في الصحيح: «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» ( ). أما الأخبار المتعلقة بالأحوال التي أحاطت به وعلاقته بعثمان ومعاوية، رضي الله عنهما، فأكثرها مكذوب( ).
3- عمرو بن العاص، رضي الله عنه:
كتب عنه أنه قد لعب دوراً كبيراً في إثارة الناس على الخليفة عثمان، رضي الله عنه، لاسيّما بعد أن عزله عن ولاية مصر، وكان سعيه إلى السلطة كبيراً، وكان يطمع في فتح مصر نظراً لما فيها من خيرات، وقد استخدم مكره ودهاءه ليعزل علياً ويثبّت معاويةً، رضي الله عنهما، في مسألة التحكيم، وقد اختاره معاوية، رضي الله عنه، ليختلق أحاديث مكذوبة منسوبة إلى الرسول لإعلاء شأن معاوية، رضي الله عنه، والحط من شأن خصومه( ).
هذا صحابي يلقى ظلماً كبيراً وتدور حوله إساءآت شنيعة بسبب بعدنا عن حقيقة ديننا وتاريخنا والتصاقنا بمرجعيات دخيلة غريبة هدفها الإساءة إلى كل ما هو خير، وهو الصحابي الذي قال عنه الرسول : «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ»( ). فسيرته جديرة بالتأمل حتى تتمكن الأمة من التعرف إلى حقيقة أوئك الأصحاب الأخيار، رضي الله عنهم، من أجل الاقتداء( ).
4- معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه:
ورد في كتب الأولاد عن هذا الصحابي أنه إمام الضلالة والكفر، كان قد أظهر الإسـلام نفاقاً وأبطنه كفراً، وكانت وسيلته في التخلص من أعدائه استعمال السم، ومن ذلك أنه اتفق مع زوجة الحسن بن علي، رضي الله عنه، فدست السم له فمات، وكان يكره الحسين بن علي، رضي الله عنه، كراهية مريرة، وقد أمر بلعن علي، رضي الله عنه، على منابر المسـاجد، وقد كلف رجلاً بالتخلص من كل من يذكر علياً، رضي الله عـنه، أو ذريته بالخـير، كما طلب منه أن يهدم بيوت كل من كانت له صـلة ببني هاشم، وأن يسـبي نساء وبنات أتباع علي، رضي الله عنه، وكان يمنع الرزق عن كل من يعارض سياسته، وهو من أهل الدنيا لا يبالي بالآخرة ولا يعرفها.
وكان بارعاً في إثارة الخـلاف بين القبائل ضمن سياسة فرّق تسـد، وقد اختار نخبة من أعوانه من الصحابة، رضي الله عنهم، ليختلقوا أحاديث مكذوبة منسوبة إلى الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، كذلك استعان بالقصاصين من اليمن ليستخدم القصة سلاحاً لتمجيده وتمجـيد بني أمـية وذم علي، رضي الله عنه، وأثناء حكمه أنزل بالفقراء الحرمـان والعـذاب بعد أن رفضـوا رشوته والسكوت على أفعـاله، وكان وأصحـابه يحتكرون أرزاق الناس ويرفعون رايات القهر والقمع( ).
يتضح مما كتب عن هذا الصحابي، رضي الله عنه، أنه الأشد خروجاً عن منهج التعامل مع الصحابة، رضي الله عنهم، وقد قُدِّم معاوية، رضي الله عنه، على أنه رجل من رجال هذا العصر، وليس من خير القرون، يستخدم كل ما أوتي من حيلة ومكر ودهاء ليحقق مآربه في السلطة والملك، ومرد هذا كله الهوى واتباع الضلال والبعد عن الحق. فهذا الصحابي، رضي الله عنه، كان أحد كتّاب الرسول ، وقد قال عنه النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ»( )، وقد روى عن النبي مائة وثلاثين حديثاً، وروى عنه عدد من الصحابة والتابعين( )، وقد ولاه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وأقره عثمان، رضي الله عنه( )، وكان عادلاً رحيماً حريصاً على رعيته، وكان الناس في ولايته متفقين يغزون العدو، وقد أقام الخلافة ملكاً ورحمة، فكان الإسلام فيها عزيزاً والناس في خلافته في خير( ). ذلك بعض مما ورد عن فضائله، فأين هذا مما يقرأ أولاد الأمة عنه ؟ !
5- طلحة والزبير، رضي الله عنهما:
يذكر في كتب الأطفال أن طلحة والزبير، رضي الله عنهما، قد أكرها على بيعة علي، رضي الله عنه، وقد لجأ إلى عائشة، رضي الله عنها، وطلبا منها أن تخذل الناس عن بيعته، وكانا يصرّحان أن من قتل الخليفة عثمان، رضي الله عنه، هم بطانة علي ورؤساء أصحابه، وقد حرّضا عائشة، رضي الله عنها، على الخروج إلى البصرة طلباً لدم الخليفة المهدور، وكانا قد شهدا زوراً أمامها لكي يحولا دون أن ترجع إلى المدينة وهي في طريقها إلى البصرة، واعتبرت شهادتهما أول شهادة زور في الإسلام( ).
يعدّ كثيراً مما ورد عن الصحابيين طلحة والزبير، رضي الله عنهما، من باب الكذب هدفه النيل منهما والإساءة إلى ما فعلاه من نصرة الإسلام وأهله، وهما يقدمان كأنهما ليسا من الصحابة، بل هما رجلا دنيا يثيران الناس ويحرضانهم سعياً لتحقيق مآربهما في الإمارة والسيادة.
6- عائشة، رضي الله عنها:
صوّرتها كتب الأولاد على أنها المرأة التي تدفعها عاطفتها الهوجاء، ويقودها تهورها، وتستجيب لأهوائها، وهي تارة مع فئة وتارة مع فئة أخرى: فقد كانت في بداية أمرها على رأس المنتقدين لسياسة عثمان، رضي الله عنه، والساخطين عليها لمحاباته ذوي رحمه وتنفيذه لما يشيرون به عليه، وعمدت لذلك إلى تهييج الناس عليه وتأليبهم، واعتبرته طاغية، وقد جهرت ببغضها له، وأظهرت رغبتها في خلعه على أمل أن يلي الخلافة طلحة، رضي الله عنه، قريبها وزوج أختها، ثم بعد ذلك دفعتها أهواؤها إلى تدبير المكائد والمؤامرات ضد علي، رضي الله عنه، بتحريض من طلحة والزبير، رضي الله عنهما، وأخذت تثير الناس في مكة ضده، وخرجت إلى البصرة تقاتله، وتعلن أنه من قتل الخليفة عثمان، رضي الله عنه، فتشعل بذلك حرباً تهدر فيها دماء المسلمين. كذلك ذكرت غيرتها الشديدة من خديجة، رضي الله عنها، ومكائدها لزوجات رسول الله ( ).
تلك الصورة الغريبة المنكرة عن عائشة، رضي الله عنها، إنما كتبت بأقلام من لا يحسـنون صنعاً ويفترون ويدسون أباطيل وأكاذيب، وهم لا يعرفون من تكون عائشة، رضي الله عنها، وما منـزلتها. إنها من أكثر الصحابة رواية لأحاديث الرسول ، وكانت أحب الناس إلى رسول الله عليه أفضل الصلاة والسـلام، وقال عنها ابن تيمية رحمه الله : «وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين، فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن أدرك أول النبـوة، فكانت أفضل لهذه الزيادة، فإن الأمة انتفعت بهـا أكبر مما انتفعت بغيرها، وبلغت من العلم والسن ما لم يبلغه غيرها»( )، وقال عنها الذهبي، رحمه الله: «ولا أعـلم في أمة محمد ، بل وفي النساء مطلقاً، امرأة أعلم منها»( )، وكانت منـزلتها عند الله عز وجل ذات شأن، فقد روى البخاري قول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ لا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا»( )، وفضائلها أكثر من أن تحصى في هذا الرد الوجيز.
كلمة:
لقد دفع الاهتمام بأخبار الصحابة، رضي الله عنهم، جملة من الأقلام لتقديمها بصورة واسعة، فظهرت نتيجة لذلك سلاسل متعددة العناوين غلب على كثير منها السرد التقليدي، كما أنها كانت في أغلب الأحيان موجهة لمرحلة عمرية متأخرة ( من 12 إلى 15 سنة ) على وجه التقريب، ولم يكن لأطفال ما قبل هذه المرحلة نصيب في التعرف إلى أخبارهم، ويتطلب هذا الأمر إعادة نظر في الكتابة للمراحل العمرية المختلفة حتى تحصل على نصيبها من هذا الزاد الخيّر، فتؤدي فعلها في البناء والظهور والارتقاء على أحسن صورة.
ونحن إن تجاوزنا الجانب الشكلي، رغم أهميته عند المتلقي، نجد أن المادة التي تشكل أساس هذه الكتب تعتمد اعتماداً كبيراً على مراجع ثانوية معاصرة كتبت في الأصل للكبار، فما كان إلا أن تنقل مواد تلك المراجع إلى كتب الأطفال، مع إجراء تعديلات طفيفة هنا وهناك، دون مراعاة للغـة المتلقي وإمكاناته في الفهم والاستيعاب، ودون اهتمام حقيقي بالمادة نفسها، فلا يمكن للأولاد على سبيل المثال أن يستوعبوا كل ما حوته تلك المراجع، فهناك أخبار ومواقف وقضايا في حياة الصحابة، رضي الله عنهم، تتطلب عقلاً ناضجاً لاستيعابها وتقديرها، مثل فتنة استشهاد عثمان، رضي الله عنه، وهذا الأمر لا يتسنى لطفل في الثاني عشرة من عمره، هذا إذا كنا نتحدث عن الأخبار الصحيحة، وهذه الكتب المراجع تحتشد بعدد من الأخبار الضعيفة الواهية والموضوعة.
وإذا ما تيسّر لكتّاب الأخذ من مصادر متقدمة نسبياً مثل تاريخ الرسل والملوك للطبري ومروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي، وهي المصادر المتداولة بين أيدي الكتّاب، فهناك آلاف المرويات التي تحتويها تلك المصادر تحتاج تمحيصاً وتدقيقاً، فليس كل ما ورد فيها من تلك الأخبار صحيحاً.
وفي الحديث عن المرويات التاريخية التي تضمها كتب التاريخ المتقدمة مثل كتابي الطبري والمسعودي نتناول مسألة الإسناد، فنقرأ منهج الطبري الذي بينه في مقدمة كتابه، فإنه يقول :
«وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل فيه،... فما يكن في كتابي هـذا من خـبر ذكرناه عـن بعض الماضـين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض قائليه إلينا، وإنّا إنما أدّينا ذلك على نحو ما أدي إلينا»( ).
يدرك المتأمل لقول الطبري، رحمه الله، أنه إنما هو راو للروايات، وهذا يضـع القارىء لكتابه أمام حشد كبير من الأخبار، كما يضعه أمام مرويات أكثر حشداً، فإن حادثة واحدة قد رويت بأسـانيد مختلفة في حـالات كثيرة، وهذا يتطلب اختيار الرواية الصحيحة للحادثة اعتمـاداً على أحوال الرواة، ولا يتم ذلك إلا بعزمات رجال قادرين على التعامل مع تلك الأخبار وبيان أحوال رواتها حتى يعرف صحيحها من سقيمها.
وبالمقابل نتحدث عن كتاب المسعودي، وهو كتاب زاخر بأخبار الصحابة، رضي الله عنهم، إلا أن كاتبه قد اكتفى برواية الأخبار دون ذكر أسانيدها، فالأخذ من كتابه يمثّل مجازفة، لا سيما لمن لم يمتلك الرؤية الصحيحة والمنهج القويم وأدوات الكتابة الصحيحة.
ومما لا شك فيه أن مسألة الكتابة الصحيحة عن الصحابة، رضي الله عنهم، إنما تكون بالاستناد إلى المصادر الموثوقة الصحيحة التي في مقدمتها كتاب الله عز وجل، ففيه ذكر لصفاتهم وخصائصهم وجهادهم، وهو يشكل أسـاساً متيناً للحديث عنهم وتناول أخبارهم ؛ ثم ما صح عن النبي من أحاديث فيهم، وهذه تمثل أساساً ثانياً لحديث عنهم بتفصيلات كثيرة دقيقة تعطي لكل صحابي حقه؛ وهناك المرويات التاريخية وشرطها أن تكون مسندة صحيحة الأسانيد يرويها أصحاب المصنفات الحديثية والتاريخية، أو التي خصصت لتراجم الرجال بأسانيدهم الصحيحة إلى شاهد عيان( ).
يتفق هذا الضبط في نقل أخبار الصحابة، رضي الله عنهم، مع مكانتهم وموقعهم في تاريخ الأمة ودورهم في حماية الإسلام وظهوره وانتشاره، فإنهم قد «حفظوا ( سنن رسوله ) عليه وبلغوها عنه، وبلغوها عنه، وهم صحابته الحواريون الذين ودوها وأدوها ناصحين محسنين، حتى كمل بما نقلوه الدين وثبتت بهم حجة الله تعالى على المسلمين، فهم خير القرون، وخير أمة أخرجت للناس، ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم وثناء رسوله عليه السلام»( ).
ولكن الواقع في تقديم أخبار الأصحاب، رضي الله عنهم، بعيد عن الصحة بعد السماء عن الأرض، وهنا تستوقفنا فترة زمنية سبقت استشهاد الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وما أتبعها من حوادث، وهي سنوات تغطي مساحة شائكة في أخبار الصحابة قد تحيّر وتربك من يريد أن يخوضها، لا سيما في أدب الأطفال. ومعروف أنها الحقبة التاريخية التي شاعت فيها فتنة استشهاد الخليفة عثمان، رضي الله عنه، وموقعتي الجمل وصفين والتحكيم شيوعاً أكبر بكثير مما كان فيها من مواضع القدوة، وما كان فيها من العدل والإنصاف( )، وطغت عليها أخبار السوء والكذب، وأخذ مروجون يدونون مرويات واهية محتشدة بالإساءات والمغالطات والمفتريات في حق الصحابة، رضي الله عنهم، وبقيت تلك المرويات تتأرجح بين المروجين لها، أصحاب الأهواء والتشرذم والتعصب، وبين المدافعين عن الحق المنافحين عن الأصحاب الذين أسيئ إليهم.
وفي عصرنا، عصر الضعف والتخاذل والانفلات من ضوابط الحق واتباع الهوى، انتقلت مرويات السوء إلى كتب الأولاد، حيث يقول من يريد ما يريد بعيداً عن التخصص والالتزام بالحق، وأضيف إليها ما أضيف من ضلالات وجهالات بحكم التعصب والميل والجهل والبعد عن الحق واتباع أقلام مسـتشرقين على زعم أنهـم يكتبون بموضوعية وأسس علمية عن الإسلام وأهله، وفي هذه الحالات كلها تغيب أخبار الحق عن كتب الأولاد.
والحديث عن تلك الحقبة الزمنية التي اختلطت فيها أخبار الحق بأخبار السوء يقودنا إلى الحديث عن علماء الأمة، الذين بذلوا وما زالوا يبذلون جهوداً لإبلاغ الحق وإظهاره استناداً إلى مصادر موثوقة صحيحة الأسانيد، فإن تدوين ما جرى بين الأصحاب، رضي الله عنهم، لا بد أن ينطلق من قاعدة سليمة صحيحة مؤسسة على مكانتهم في الأمة ودورهم في حماية هذا الدين وحملـه وإظهـاره. ونستأنس في هذا المقام بما قال ابن تيمية رحمه الله وهو يتحدث عما جرى من حوادث وخلاف: «كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيراً من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال إذا كان كـثير من الخـوض في ذلك أو أكثره كلاماً بلا علم، وهذا حرام... فمن تكلم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم كان مستوجباً للوعيد، ولو تكلم بحق لقصد الهوى لا لوجـه الله تعالى أو يعارض به حقاً آخر لكان أيضاً مستوجباً للّوم والعقاب»( )، واتباعاً لهذا المبدأ فإن الإمساك عما جرى بين الصحابة في أدب الأطفال أولى وأشد، لأن هذا الأدب يبين القيم ويسهم إسهاماً كبيراً في التربية.
ومن المجازفات في الكتابة عن الصحابة، رضي الله عنهم، أن أهل الأهواء يميلون نحو صحابي فيجعلونه معصوماً من الذنوب، ويوجهون سهام الحقد نحو آخر فيجعلونه مأثوماً فاسقاً أو كافراً، ويُظْهر هذا جهلهم وتناقضهم( ).
وقد وقعت كتب الأطفال في مصيدة التعصب والتشرذم والتحيّز بعيداً عن إدراك أقلامها لحقيقة الصحابة، رضي الله عنهم، فهم بشر غير معصومين يجري عليهم الخطأ والصواب، وقد اجتهدوا وأصابوا وأخطأوا( ). إن نزع الصفة البشرية عن جيل الصحابة، رضي الله عنهم، وادعاء العصمة لهم إنما يؤدي إلى خلل في رسالة الإسلام، فإن هذه الصفة واقعية تتعامل مع الناس من خلال الحالات التي هم عليها، وليست صفتهم خيالية عصيّة عن التطـبيق( )، والخطورة في هذه الرؤية وتبنـيها إنما يفضي إلى التعامل مع الأصحاب على أنهم نماذج لا يمكن أن تطبق بشريتهم بسبب عصمتهم المزعومة. وهذا بدوره يفقد مواقعهم ومواقفهم حقيقة تنـزيل القيم الإسلامية على أرض الواقع، فتخسر الأمة مرجعيتها في التعامل معهم على أساس أنهم بشر.
وننتقل من حال ادعاء العصمة للصحابة، رضي الله عنهم، إلى حال سبهم وشتمهم، وهذا بدوره يؤدي إلى مجازفة لا تقل خطورة عن سابقتها، وهو أمر لايعيه أصحاب الأهواء وأهل لجهل والغفلة والتعصب ونحن بصدد الحديث عن تربية أولاد الأمة وبيان مرتكزات دينهم ورجاله الذين أظهروه، وتستوقفنا هنا كلمات النبي وهو يحذرنا من الإساءة إلى الصحابة، رضي الله عنهم: «لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ»( )، وقد قال الإمام النووي، رحمه الله، في شرحـه للحديث: «واعلم أن سبّ الصحـابة، رضي الله عنهم، حرام من فواحش المحرمات، سواء ما لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون»( ).
إننا أمام توجيه تربوي حميد من عالم من علماء الأمة ينبهنا إلى ضرورة الامتناع عن الإسـاءة إلى الصحابة، رضي الله عنهم، فإن الطعن بـهم إنـما هـو طعن بالدين الذين هم رواته، وتشـويه سيرتهم هو تشويه للأمانة التي حمـلوها وتشكيك في جمـيع الأسس التي قام عليها هذا الدين( ).
ويستوقفنا هنا ما يكتب عن الصحابي معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، من إساءات تترى ومفتريات كاذبة، فإن كان هذا الصحابي على ما يزعمون من مواقف وسلوك، وحاشا له ذلك، فكيف أمّنه الرسول ليكتب له؟ ألا يمكن لهذا أن يثير شكاً عند الأولاد وهم يتعرضون لمفتريات وأكاذيب في حق الإسلام وأهله؟ ألا يدفعهم هذا إلى الطعن بالدين والتشكيك في أسسه؟ والأمر ذاته ينطبق على عائشة، رضي الله عنها، فإنها كما تصورها بعض الأقلام هوجاء تستجيب لأهوائها، وتحقد على بعض الصحابة، رضي الله عنهم، وتثير الناس من حولهـا، وحاشا لها هذا. هذه الأباطيل في حقها من شأنها أيضاً أن تثير الشك عند الأولاد، ولعلهم يسألون: كيف تكون هي من أكثر الصحابة رواية عن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وهي على تلك الصورة؟ فلا بد من التشكيك بروايتها، ومن هنا يكون الطعن بالدين وحملته، ومن هنا تبدأ عملية هدم الإسلام في عقول ونفوس وقلوب أولاد الأمة بأيدي مسلمين. وربما استهان الناس بهذه المسألة في كتب الأطفال، وما أدركوا أنها تعني ضياع المرجعية من أجل بناء القاعدة الصلبة ، وضياعها يعني الضلال الثقافي والإصابات الثقافية( ).
إن ما يدور في كتب أولاد الأمة أمر يثير العجب والذهول، فهناك يحسن من يكتب عن خصائص وصفات بعض الأصحاب وعبادتهم وإيمانهم، وعندما يأتي الحديث عن الممارسات السياسية العملية ترسم لهم صور من المكر والكذب والخداع والغش ونقض العهود والانكباب على الدنيا( )، وهذا يعود إلى الفكر الذي يأسرنا ويحجب الرؤية، وهو فكر يوهن قيمة الأصحاب ويحط من قدرهم ويدعي بأنهم جيل فتن واغتيالات وحروب واستبداد سياسي وظلم، والقصد هو قطع الأمة عن جذورها، ولعل هذا مرده إلى واقع الفصام الفكري والثقافي الذي تعيشه الأمة( )، وترضعه لأولادها دون إدراك لعواقبه الجسيمة، فتربيتهم إنما تنبع من واقعنا المرهون بالفصام الثقافي الفكري، وهو ما أخذناه من فكر (الآخر) وسلوكه، فـ(الآخر) يؤكد على الدوام أن الدين شيء والحياة شيء آخر، والعبادة بمفـهومها الكهنوتي إنمـا هي بين الله عز وجل وخالقه، أما الحياة بممارساتها المتنوعة فلا بد أن تنفصل عن الخالق وشرعه حتى تسـير الأمور سـيرها المطلوب وفق فكر (الآخر)، فلا بأس بالغش والتزوير والخداع والكذب والاحـتيال والقتل تحقيقاً للمصالح. لقد أصبحنا مكبلين بقيود فكر (الآخر) وفلسفـته في الحياة ونحن نتحدث عن خير القرون( ).
لقد صان الصحابة، رضي الله عنهم، الأمانة وحملوها وحفظوها وأوصلوها إلى غيرهم، وكانوا أسمى أخلاقاً وأصدق إخلاصاً وترفعاً عن الدنيا من أن يختلفوا لها( ). | |
|