ابو الريم مشرف
عدد المساهمات : 356 تاريخ التسجيل : 12/02/2012 العمر : 36 الموقع : مشرف
| موضوع: في أدب الأطفال رؤية الحاضر بصيرة المستقبل » الفصل الخامس الأربعاء فبراير 15, 2012 12:59 am | |
| ماذا يقرأ أولاد الأمة عن التاريخ الإسلامي؟ ما الأشكال الفنية التي تقدم هذا التاريخ ؟ هل تمكن الكتاب من أن يقدموا المطلوب في هذا الشأن؟ هل استطاعت كتب الأطفال أن تسهم في نهوض أولاد الأمة وتحفّز عندهم الهمم ليؤدوا دورهم في البناء؟ تلك بعض الأسئلة التي تلح علينا عند الحـديث عن التاريخ الإسـلامي، وهو تاريخ يمثّل تجربة إنسانية غنية نابعـة من دين ارتضاه الله عز وجـل لعباده، فإنه تاريخ يحمل في ثناياه زخماً ثراً للفعل الحضاري المنشود لهذه الأمة في هذا العصر وفي كل العصور.
ليس التاريخ الإسلامي حوادث مثيرة وطريفة وظريفة تقدم لأبنائنا للإثارة والتشويق على غرار ما تقدم أعمال تلفازية تكاد لا تنقطع نهاراً وليلاً وهي تحمل لهم الدخيل والغريب أكثر مما تحمل من الأصيل لتبعدهم عن واقع يجب أن يكونوا فيه، وهو ليس قراءة للفخر والاعتزاز والهتاف للأجداد تقف عنده الأمة مكبّلة بواقعها مخدرة بتاريخها وقد ضعفت إرادتها وتشكلت عندها حالات وهن وركود ورقود غير مسبوقة، في حين أن هذا التاريخ من شأنه أن ينهضها من وضعها الراهن، هذا إن أحسنت التعامل مع قيمها.
لا شك أن كتب الأطفال عن التاريخ الإسلامي تحوي خيراً، ولكنه خير لا يفعل فعله المطلوب في التغيير بسبب ما يعترضه من عقبات تتمثل في شوائب كثيرة تكدّر صفوه، وهي شوائب تكاد تطغى على هذا الخير بفعل ما تحمل من مفهومات وأخبار مدسوسة مغايرة تماماً لما يجب أن يتلقاه الأولاد وينشأوا عليه، والخطورة هنا أن هذا يربي أجيالاً لا تقدر تاريخها حق قدره، ولا تملك العزيمة لتفعيله حتى يتحول إلى محرك قوي للإرادة، فالتاريخ بصـورة عامة، والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص، إنما هو منارات تضيء دروب المستقبل، إن أحسن فهمه، وليس واقع محنطـة في متحف التاريخ، فالتفاعل معه لا بد أن ينبع من رؤية التطلع للمستقبل، وما هو واقـع في فهمنا للتاريخ الإسـلامي ونقـدنا له إنمـا يجعل ارتباط أولادنا به هشّاً عرضة لأي انفصال معه إذا ما أتيحت الظروف.
ونقف هـنا مع هـذه النمـاذج، التي تمـثل اتجاهات عـامة في كتابة هـذا التاريخ لأولاد الأمـة، وهي تظهر كيف ذهبت الأقـلام مذاهب شتـى كأنـها تتخبط ذات اليمين وذات الشمال وقد فقدت بوصلة الأمان.
النموذج الأول:
ذكر أن الصحـابي حاطب بن أبي بلتعة، رضي الله عنه، رسول النبي إلى المقوقـس حـاكم مصر آنذاك قد طـاف في الإسكندرية، فرأى جـامعتها وحصونـها ومسـلتين من آثار الفراعـنة، وسمـع عن أخـناتون الذي نادى بديانـة التوحـيد قبل موسـى وعيسى، عليهما السلام( ) .
يثير هذا الخبر عديداً من التساؤلات، وقد أقحم في إطار الواقع التاريخي، فلا يوجد مصدر تاريخي يذكر هذا( )، وهل كانت مكتبة الإسكندرية قائمة حين دخول الصحابي مصر نحو السنة السابعة من الهجرة؟ وهل كان الناس على علم بأخناتون ودعوته المزعومة إلى التوحيد؟ فمن المعلوم أن المسألة الفرعونية والاهتمام بها لم تظهر إلا بعد أن أثارها (الآخر) منذ ما يقارب نحو مائتي عام، أي بعد اكتشاف حجر رشيد عام 1799م (نحو 1214 هـ)، فبين الصحابي، رضي الله عنه، وهذا التاريخ أكثر من عشرة قرون، ومن المعلوم كذلك أن أخناتون كان تجسيداً للآلهة، ثم أصبح ابن إله، وكان رعاياه يتعبدون له( )، ولو أنه دعا إلى التوحيد الحق لما ادعى أنه ابن إله، والمجازفة في ذكر هذه الدعوة الباطلـة يخشـى معـه التوهـم بأن قـد أثرت على دعـوتي موسى وعيسى، عليهما السلام، كأنهما قد أخذا عنه فكرة التوحيد ولم تكن وحياً، وقد خاض في هذا الكلام الفاسد «سيجموند فرويد» اليهودي الذي ادعى أن موسى، عليه السلام، قد تربى في كنف الوحدانية التي نادى بها أخناتون.
النموذج الثاني:
ورد في أحد كتب الأطفال أن غلاماً نصرانياً من بني تغلب قد حسم معركة البويب التي جرت بين المسلمين والفرس عام 13 هـ عندما قتل قائد الفرس( )، ويهمنا أن نذكر مرويات هذه المعركة بإيجاز : فقد رويت بعدة طرق مع اختلاف بيّن في مجرياتها، فعند خليفة بن خـياط أن براء ابن مالك قد بارز قائد الفرس المرزبان وقـتله( )، وعند البلاذري روايتان لم يذكر فيهما أن من قتله هو الغلام النصراني ( )، وعند الطبري أربع مرويات( ) اثنتان منهما تفيدان أن من قتل المرزبان هو غلام تغلبي، وقد رواهما الطبري، رحمه الله، عن سيف بن معمر التميمي وهو متروك( ). لقد اختيرت الرواية الضعيفة اتفاقاً مع رؤية قومية خارج إطار العقيدة، ولعل الأولاد يتساءلون عن مجاهدين مسلمين في معركة البويب يقفون حيارى مذهولين مكتوفي الأيدي أمام الفرس، فينهض غلام نصراني يهتف إعلاء لقومه «أنا الغلام التغلبي» وليس نصرة لدين الله، يقدم هذا لأولاد الأمة عن معركة ذكر المؤرخ ابن كثير، رحمه الله، أنها بحجمها وأهميتها تعادل معركة اليرمـوك في بلاد الشام( ). هذا نموذج يظهر أن اختيار الخبر إنما وفق الهوى، وليس اتباعاً للحق، يقدم للأولاد حتى وإن كان خبراً تالفاً واهياً.
النموذج الثالث:
إنه نموذج يسقط التفسير المادي على التاريخ الإسلامي، فتكون الفتوحات الإسلامية وفق هذا التفسير لأهداف مادية، ومن ذلك ما ذكر من أن الصحابي عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قد أعجب بمصر إعجاباً شديداً؛ لأنها أفضل البلاد وأكثرها مالاً( )، وهذا قد دفعه دفعاً لفتحها. والأمر ذاته ينسحب على فتح المسلمين للأندلس، فقد أخذ يوليان يعدّد لموسى بن نصير، رحمه الله، خيرات الأندلس وكنوزها، فاتجه المسلمون ليحصلوا على تلك الغنائم ( ).
النموذج الرابع:
هو نموذج لا يعتمد على مرويات ضعيفة، وإنما يبتكر أخباراً غريبة، فمن ذلك أن يتحول السلطان صلاح الدين الأيوبي إلى بطل للقومية العربية قد جمع كلمة العرب من مسلمين ونصارى لمحاربة الفرنج( )، وقد كان بين قواته عدد كبير من النصارى، واشتهر بينهم عيسى العوام( ). إنها رؤية تشوه صفحات مشرقة من تاريخ الأمة قامت على الحق، وتسيء إلى قائد مسلم لم يكن عربياً، قد تمكن من جمع كلمة الأمة تحت راية الإسلام، وليس راية القومية كما يزعم، وأن المصادر المعاصرة تفند الادعاء بأن عيسى العوام، رحمه الله، كان نصرانياً( ). ونسـتأنس بقول ابن تيمية، رحمه الله، وهو قريب عهد بتلك الحقبة التاريخية: «وصـلاح الدين وأهل بيته ما كانوا يوالون النصارى، ولم يكونوا يستعملون منهم أحداً في شيء من أمور المسلمين أصلاً، ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء، مع قلة المال والعدد»( ).
النموذج الخامس:
إنه نموذج يخرج من فكر (الآخر)، لا سيما الاتجاه الاستشراقي فيه، وهو يضخّم ما كان بين المسلمين من فتن، ويجعل تاريخهم تاريخ حروب وقتل وسفك دماء وفتن ومؤامرات ودسائس( )، وهذا يدفع أولاد الأمة إلى النظر بريبة وشك إلى التاريخ الإسلامي، ويزعزع إيمانهم بهذا التاريخ ورجالاته، فيضيع خير كثير، ويتوقف الفعل الحضاري المرتجى من الأولاد استكمالاً لمسيرة الحق.
النموذج السادس:
تميل بعض الكتب إلى تصوير حكام المسلمين وأولياء أمورهم بصورة مغايرة للواقع، فكثير منهم يظهرون في الكتب غارقين في اللهو والفساد ينفقون من خزائن الدولة ببذخ، ولا يبدون أدنى اهتمام بالرعية( ). وهذا من شأنه أن يوهن علاقة أولاد الأمة بمن ولي أمر المسلمين عبر تاريخهم، كما يؤدي إلى التشكيك في حقيقتهم وأنهم لم يكونوا يحكمون بما أنزل لله، بل وفق أهوائهم، فلا بد والحال هذه من نبذ تاريخهم بأكمله والتطلع إلى (الآخر) وتبني فكره السياسي، فإن نظام حكم (الآخر) وسياسته لرعيته هي المطلوبة لتحقيق الرخاء والعدل مع إخفاء فكره الميكيافيللي حتى لا تثار الشكوك في نظامه، وهذا يقود إلى أن تلغى تلك العلامات الخيّرة في التاريخ الإسلامي لتحل محلها صفحات مليئة بالمفتريات والأكاذيب مأخوذة من مرويات موضوعة تالفة تقرأ من كتاب الأغاني وألف ليلة وليلة.
النموذج السابع:
تسيء كتب الأطفال لدولة المماليك والدولة العثمانية إساءة تثير الدهشة والعجب، فالمماليك في تلك الكتب عبيد انتزعوا الملك من سادتهم العرب، وأسسوا دولتهم بالخيانة، يستبيحون كل شيء حماية لعروشهم وحفاظاً على الثروة الحرام، لا يخلصون لعهد، قد أذاقوا العرب العذاب بوحشيتهم وشرورهم( )، وسلاطين الدولة العثمانية قتلة يشقون طريقهم إلى العرش سـابحين في بحر دماء آل عثمان، لا يحترمون المودة ولا صلة الدم، يمارسون الظلم والفساد، همهم كتم أنفاس الناس وجمع أموالهم، عصرهم من أحلك العصور وأشدها طغياناً واستبداداً وفساداً، بقيت بعض الديار الإسلامية تحت احتلالهم نحو خمسمائة عام فرضوا خلالها حكماً قاسياً اتسم بالتخلف والجهل والفقر( ).
إنه تجاهل عن سبق إصرار وترصد لجهود الدولتين في الحفاظ على عقيدة الأمة وكيانها ونهوضها وظهورها وبنائها الحضاري ودرء الأخطار عنها، وإنه من غير الإنصاف أن تؤخذ هذه الإنجازات التي استغرقت نحو سبعة قرون بجريرة فترات ضعف نتيجة ابتعاد عن الحق، فتكون تلك السقطات تجسيداً للدولتين وإلغاءً لدورهما الفاعل والمؤثر في ديار الإسلام، وما ذاك إلا بسبب رؤية ضيقة وإقليمية محصورة، فدعاة العنصرية يرون المماليك والعثمانيين أجانب دخلاء خارج إطار العقيدة التي تربط الأخوة فيها بوشـائج المحبة والتعـاون والرحمـة والـولاء.
واتفاقاً مع هذا التوجه الظالم لمجريات التاريخ الإسـلامي، اعتبرت الحملة الفرنسية حركة تنوير في بعض ديار الإسـلام، فقد رفعت شعـارات الحرية والإخاء والمساواة، وعملت على هدم جدار العزلة والتخـلف فيها( )، والغرض من هـذا الكلام واضـح، وهـو يتفق مع محـاولات (الآخر) ليس فقط لإسقاط الخلافة الإسلامية، وإنما لإلغاء الإسلام من حياة المسلمين للقضاء عليه.
كلمة:
في الحديث عن التاريخ الإسلامي وأولاد الأمة تبرز مسؤولية الكتاب الجسيمة في الكتابة في هذا الميدان الفكري الواسع، فمما لا شك فيه أن المادة التاريخية تشكل محور اهتمام الكتاب، وهي في حد ذاتها تمثل إشكالية لا بد من مواجهتها0فعندما يشرع الكتاب في الكتابة تعترضهم مواقف وحوادث لا حصر لها تتطلب حيطة وتأملاً، وهذا من الواجب أن يدفعهم إلى الحذر، وهو حذر واجب كل الوجوب بسبب طبيعة المتلقي وبسبب طبيعة المادة التاريخية0وفي الحالين فإن الأمر يتصل بأداء الأمانة على أكمل وجه حتى تصل سليمة صحيحة تفعل فعلها المطلوب في التأثير من أجل إنهاض الهمم في البناء والحركة الصحيحة للمشاركة في التاريخ، فأولاد الأمة لن يبقوا أطفالاً طوال عمرهم، وهم في نمو وتحول، وينبغي أن تكون البذرة صحيحة سليمة في تربة خيّرة حتى تكون الثمرة طيبة، وأداء الأمانة كذلك يكون للتاريخ الإسلامي نفسه، حتى يصل إلى المتلقي من نبعه الصافي دون أن يكدره كدر.
إن كتب الأولاد عن التاريخ الإسلامي، وهي تحمل جوانب خير عديدة، تضم كذلك مغالطات كثيرة ومفتريات من شأنها أن تترك أثرها السلبي على الأولاد، وإن ضعف اتصالهم بتاريخهم إنما هو بداية ابتعادهم عن دينهم، لأن التاريخ الإسلامي هو تطبيق عملي عبر القرون لهذا الدين وما يحمل من قيم تنـزل على أرض الواقع وتفعل فعلها في التغيير.
وفي كتابة التاريخ الإسلامي لأولادنا تعترضنا مسألة مهمة أخرى، وهي مسألة السقطات في تاريخنا، والصفحات المشرقة التي تكدرت بفعل خروج الإنسان عن الحق، وهذا أمر طبيـعي، فالمسلمون ليسوا ملائكة ولا معصومين، تجري عليهم السنن التي تجري على البشر في السقوط والزلل والأخطاء والهفوات، وهذه مدونة في كتب مؤرخينا، فإنهم وقد أدركوا حقيقة الإنسـان لم يغفـلوا عن ذكرها، ولكنهم ما فعلوا ذلك إلا لبيان واقع الحال وللأمانة العلمية، وكانوا يدركون أن هذا إنما سنن، فكلما كانـت الأمة أقرب إلى خالقها انتصرت في شتى مناحي الحياة، وكلما ابتعـدت عن خالقها كانت الهزائم والضعف والتخاذل والاختلاف والفرقة.
ومن هذا المبدأ لا نقدر أن نغض الطرف عن السقطات والأخطاء ومواقع الزلل في تاريخنا. إننا نقرأ هذه السقطات ونقف عندها ونحرص على بيان ما تشتمل من عبر ودروس( )، ونقدمها لأولادنا في أطر مناسبة ملائمة حتى لا نغرس فيهم قلقاً وخوفاً وتشكيكاً بتاريخ أمتهم، بل ندعوهم إلى أن يقبلوا عليه إقبال الحريص على دينه وأمته، وبذلك نفوّت على (الآخر) فرصة حتى لا يفترسهم بما يزيّن لهم من أمور، وبما يدس من سموم عن التاريخ الإسلامي في محاولة منه لانتزاعهم من جذورهم.
ولعل السؤال الذي يطرح في هذا المقام: كيف نقدم هذه الأخطاء لأولادنا؟ لقد عمدت كتب الأطفال إلى تضخيم الأخطاء لغايات، وإن وجود النية الخالصة لله تعالى يحصّن من الزلل، فإنها دافعة للخير وفعله، تعمل على غرس القيم الإسلامية في نفوس الناشئة، كما تهتم ببذر بذور التقدير لتاريخ الأمة في قلوبهم، فيكون له نصيب وافر من اهتمامهم، يقرأونه بتدبر وتأمل، ويكتشفون فيه الفعل الذي يعينهم على ارتياد المستقبل، بل يدفعهم إلى إعادة كتابته وفق الأصول ضمن خطة شاملة تنهض لها نخبة الأمة الواعية، حتى لا يصبح فريسة (للآخر) من الخارج، وحتى لا يكون مطية لأقلام جاهلة من الداخل تعبث فيه وفق الأهواء. وبذلك يرتبط الأولاد ارتباطاً وثيقاً بتاريخهم، ويدافعون عنه في المستقبل القريب والبعيد، بدل أن تغرس فيهم بذور الشك والطعن فيه، وبدل أن يرضعوا لبان الكراهية نحوه.
نقف هنا عند فترات الانكسار والسقوط في تاريخنا، ونتأمل المنهج الرباني يرسم لنا طريقاً واضحـة المعالم في التعـامل معها دون وجل، ولا ينفرون منه وهم يعلمون أن الأخطاء لا بد أن تذكر، ولهم في القرآن الكريم المثل الأعلى: ففي غزوة أحد أصيب المسلمون وابتلوا ابتلاءً شديداً، وقد خالف نفر منهم أمر الرسول طمعاً في المغنم، وكانت الهزيمة نتيجة الطمع، وكانت التوبة والاستغفار، والانتصار على النفس التي تأمر بالسوء، وكانت العبرة، فالمسلم المؤمن هو الأعلى، وله وراثة الأرض إن اتبع ما أمره الله به( ).
فهذا هو مجتمع النبوة وخير القرون، يكون محلاً للمناصحة والنقد والتقويم في مراحل النصر والهزيمة، ولعلها أعلى درجات التقويم والنقد لأرقى المجتمعات وأكثرها خيرية، وهو يشكل أنموذجاً للمجتمعات القادمة، فإنه مجتمع غير معصوم يكون مثلاً وقدوة لمجتمعات قادمة تتعرض للخطأ( ). فلم يغيّب المنهج الرباني فترات الانكسار والهزيمة والسقوط والأخطاء، عبرة للمسلمين وهم يقرأون القرآن الكريم ويتدبرون ما جاء فيه حتى تقوم الساعة. وفي هذا المنهج الإلهـي إضاءة أخرى مهمة، فإنه لم يشتم الذين أخطأوا في معركة أحد، ولم يسبهم، بل أظهر خطأهم، وما كان لهم من توبة واستغفار بعد ذلك، وما هذا إلا لإرشاد المسلمين إلى كيفية التعامل مع أخطائهم وكبواتهم وسقطاتهم.
نستعرض في هذا المقام منهج بعض الأقلام في التعامل مع السقطات التاريخية في أدب الأطفال، ونتناول ما حدث لشجرة الدر، التي تعد من الشخصيات النسائية البارزة في التاريخ الإسلامي، وقد أثارت سيرتها الاهتمام، وما كتب عنها للأولاد: «.. وانهالت قباقيب ضرتها - مطلقة أيبك وأم ابنه - على رأسها فحطمتها.. وأمرت بإلقاء جثتها من القلعة لتسقط في خندق تحت سورها، مهشمة الرأس، شبه عارية. وانتهى أمر ذات الحجاب الجميل والستر الجليل بجثة تطير حولها الجوارح، ويعبث اللصوص بحرمتها، فيسرقون بعض ما زينت به ملابسها الداخلية من حلي، ولم يبق منها سوى أشلاء ممزقة حملوها في قفة ودفنوها..»( ).
يبدو أسلوب العرض مؤثراً يستدر العواطف ويهز المشاعر، ولكنه خارج عن إطار تقديم التاريخ الإسلامي لأولادنا، وخارج عن الأمانة العلمية والالتزام بالحق، فلشجرة الدر فضائل كثيرة، وهو ما تجاهله النص تجاهلاً تاماً، وكذلك لها أخطاء، ولكن إن كان لا بد من ذكرها فلا بد من أسلوب يتناسب مع التوجه التربوي، فالتاريخ الإسلامي دروس وعبر واستقراء لفعل المستقبل، ولكن في غياب الأمانة والالتزام بقيم الأمة تخرج الأهواء من أوكارها لتضل.
إن الأخطاء امتحان وابتلاء وتمحيص، لا نخفيها ولا نحاول أن نغض الطرف عنها، كما لا نحاول أبداً أن نداري الانحرافات ونلتمس المعاذير للتـبرير أو نخـتلق وقائع مزورة للكذب، فـإننا ونحن نكتب التـاريخ لأولادنا إنما نؤدي الأمانة، والتاريخ أمانة، فعلينا أن نتحرى الحق دون محاباة ولا ظلم( ).
وفي الحديث عن الأخطـاء، التي لا بد ألا نتجاهلها، يتوجب علينا ألا نبالغ في ذكرها اتباعاً لهوى، لا سيما أننا نكتب التاريخ لأولاد الأمة، ولنعلم أن مسـاحة تلك السقطات لا تذكر أمام إنجازات كبيرة، يقول ابن تيمية، رحمه الله، في هذا الشـأن: «إنه إذا قيس ما يوجد في الأمة إلى ما يوجد في سائر الأمم كان قليلاً من كثير، وإنما يغلط من يغلط أنه ينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ولا ينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض، وهذا من الجهل والظلم»( ).
ذاك قول جدير بالتأمل عند قراءة التاريخ الإسلامي وكتابته، فإن قراءته تتطلب قدرة على دراسته وتقديمه بشجاعة حتى تكون عندنا رؤية لقوانين السقوط والنهوض والاهتداء والوقاية الحضارية( )، فإنه حركة المجتمع الإسلامي واستجابة المسلمين لقيم الدين وتفاعلهم معها وتجسيدها في الواقع، ودراسته تعين المسلمين على الإسهام في بناء الحاضر والمستقبل حتى يتمكنوا من مهمة الاستخلاف وفق المنهج الإلهي( ). ومهما حلت بهم النكسات فإنهم قادرون على النهوض والتجاوز؛ لأنهم يمتلكون القيم السليمة المعصومة( ).
فإن كانت هناك حاجة ماسة إلى كتابة التاريخ الإسلامي للأولاد بمنهج صحيح لا زيغ فيه ولا شطط ولا مغالطـات، فإن هناك حـاجة لا تقل إلحاحـاً عن هذا وهي الاهتمـام بالشكل أو أسلوب عرض المادة. فليس من الصواب أن تسـوّد صحـائف بأسلوب تقليدي يتبع نمطاً واحداً من السرد يتـكرر مع مئات الكـتب. إن جمهور الأطفال واسـع، له تنوع في القـدرة على التلـقي والفهم والإدراك، فطفل الخامسـة يحتاج إلى موضـوعات ومفردات وتركيبات لغوية تختلف اخـتلافاً بيناً عن حاجـة طفل العاشـرة أو الخامسـة عشرة. ومن حق هذا الطفل أن يكون بين يديه كتب تتسم بأشكال فنية متنوعة تثير عنده الاهتمام والتشويق والترغيب، فيقبل على تاريخه إقبالاً حسناً، بدل أن يعرض عنه.
إن كتابة التـاريخ الإسـلامي للأطفـال مثقلة بقيود الجهل والتعصب والتشرذم والعشـوائية ورغـبات الناشرين، وهي مكبّلة كذلك بالرضـا بما هو قائم على مستوى الشكل، فإن ضعف الرؤية تحول دون الاستفادة من تجربة (الآخر) في هذا المجال على وجه الخصوص، ومجـال أدب الأطفـال على وجه العمـوم.
ويبدو من الغريب حقاً أن نستفيد من فكر (الآخر) ونستعيره لنقدمه للكبار والصغار دون أن ندرك خطورة هذا الفكر، في حين أننا نعرض إعراضاً غريباً عن خططـه وأسـاليبه في تقديم التاريخ لأولاده، ونعني بهذا الشـكل أو الإطار الذي يحوي المضمـون، ويلاحظ في هـذا الشأن اهتمام الكتاب والمربين خـارج ديار الإسلام، لا سيما في أوروبة، بمادة التاريخ اهتمـاماً كبيراً، وهم يلجأون إلى وسائل متنوعة من شأنها أن تحبب مادة التاريخ لأطفالهم. فهناك النشاطات المسرحية والتمثيلية على اختلاف أنواعها، وهي نشاطات تشجع الأطفال على معايشة الحوادث التاريخية بكل معطياتها، فيعيشون أجواءها كأنها تدث أمامهم، ويشاركون في إعداد المناظر والملابس وكل ما يتعلق بها، ولا يقف المشرف/ المشرفة بعيداً، فإنه يتفاعل معهم ويناقشهم ويلفت أنظارهم إلى كل صغيرة وكبيرة، كما يشارك في أداء دور إحدى الشخصيات التاريخية( ).
وهناك المتاحف والأماكن الخاصة بالأزمنة التاريخية التي تتيح للأولاد فرص معايشتها والحديث عنها وتأمل جوانبها0ونجد كتباً وكتيبات مخصصة لهم تقوم متاحف بنشرها( )، كذلك الكتب التي تعتبر حجر الأساس في تعرفهم إلى التاريخ، ويدهش المرء لهذا التنافس الشديد بين دور النشر لتقديمها، كما يدهش وهو يتصفحها متأملاً الجهد الكبير الذي بذله الكتاب والرسامون والمصممون ليحصلوا على صور قريبة من تلك الفترات الزمنية( ).
ويقرأ المرء في كتب الخرائط التي تتناول الحضارات المتعاقبة على وجه الأرض، والكتب المتخصصة في إظهار مواقع تاريخية في ديار الإسـلام، لا سيما في فلسطـين، ضمن عملية تزوير للتاريخ هدفها إثبات حق لقوم لا وطن لهم، فيتكئون على التاريخ لإثبات حق مزعوم كذباً. هكذا يستخدمون التاريخ ويستغلونه بإتقان شديد( ).
(الآخر) لا يمـلك تاريخاً مثل التـاريخ الإسـلامي، بكل أبعاده ومعطياته وقيمه الحضارية، ومع ذلك نرى كل قوم يخدمون تاريخهم ضمن جهود عظيمة، وهي جهود تسـتقطبها مؤسسات ومراكز بحث متخصصـة ودور نشر تنفـق الملايين، في حـين أننا ما زلنا في أماكننا منكفـئين على ذواتنا معجبين بأنفسـنا إلى درجة الإسـراف، لم نفكر في إنشاء ولو مؤسسـة علمـية واحدة تهتم اهتماماً حقيقياً وصادقاً في ثقافة أطفـال الأمة، يقودهـا نخبة من المتخصصين، يبذلون الخير ويؤدون الأمانة( ). | |
|